أنواع الغضب :
الأول : الغضب المحمود : وهو ما كان لله –تعالى- عندما تنتهك محارمه ، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان إذ أن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان قال تعالى عن موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعد علمه باتخاذ قومه العجل ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف :150) .
أما غضب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله –تعالى- فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- ( ).
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال : *** رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال : ( بهذا أمرتم ؟ أو لهذا خلقتم ؟ تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم ) فقال عبد الله بن عمرو : ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه .( ) ، وما أكثر ما تنتهك محارم الله تعالى في هذا الزمان علنا وسرا ، فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة ، ومحاربة الفضيلة ، وإشاعة الفاحشة ، وبث الشبهات ، وتزيين المنكر ، وإنكار المعروف ، والاستهزاء بالدين وشعائره فهذا كله مما يوجب الغضب لله –تعالى- وهو من الغضب المحمود ، وعلامة على قوة الإيمان ، وهو ثمرة لحفظ الأوطان ،وسلامة الأبدان ، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والرد على الشبهات أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك فعن زينب بنت جحش –رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- استيقظ من نومه وهو يقول : ( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) - وحلق بأصبعه وبالتي تليها - قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال
نعم إذا كثر الخبث )( ) .
وكذلك من الغضب المحمود : الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء ، وانتهاك للأعراض ، واستباحة للأموال ، وتدمير للبلدان بلا حق .
الثاني : الغضب المذموم :
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية ، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية ، وانتشار حلق تحفيظ القرآن الكريم ، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة ، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور ، وسفر المرأة بلا محرم ، ويظهر ذلك جليا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك ، ولا همَّ له سوى مس***ة العصر !! سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه فالحق عندهم ما وافق هواهم والباطل ما حدَّ من مبتغاهم قال تعالى ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) )أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:52) .
الثالث : الغضب المباح :
وهو الغضب في غير معصية الله –تعالى- ولم يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد , وكظمه هنا خير وأبقى قال تعالى ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران : 134) ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء , فتهيأ للصلاة , فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه , فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله -عز وجل - يقول
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي . قالت (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فقال لها : قد عفا الله عنك . قالت : (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرة ( ).
وتغضب حتى إذا ما ملكتَ : أطعتَ الرضا وعصيتَ الغضب ( )
وقال نوح بن حبيب : كنت عند ابن المبارك فألحوا عليه . فقال : هاتوا كتبكم حتى أقرأ . فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد ، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان فرمى بكتابه فأصاب صلعة ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق ، وسال الدم , فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن ثم قال : سبحان الله كاد أن يكون قتال ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه ( ).
قال ابن حبان –رحمه الله تعالى- " والخلق مجبولون على الغضب ، والحلم معا ، فمن غضب وحلم في نفس الغضب فإن ذلك ليس بمذموم ما لم ي***ه غضبه إلى المكروه من القول والفعل على أن مفارقته في الأحوال كلها أحمد " ا.هـ ( )
درجات الناس في قوة الغضب :
الأولى : التفريط : ويكون ذلك بفقد قوة الغضب بالكلية أو بضعفها .
الثانية : الإفراط : ويكون بغلبة هذه الصفة حتى ت*** عن سياسة العقل والدين ولا تبقى للمرء معها بصيرة ونظر ولا فكرة ولا اختيار .
الثالثة : الاعتدال : وهو المحمود وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين ( ).
علاج الغضب :
( ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء )( ) ومن الأدوية لعلاج داء الغضب :
أولا : الاستعاذة بالله من الشيطان
قال تعالى ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:36) عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه – قال : كنت جالسا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه , وانتفخت أوداجه , فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ) فقالوا له : إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال
تعوذ بالله من الشيطان ) فقال : وهل بي جنون .( ) . قال ابن القيم -رحمه الله تعالى – " وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته " ا.هـ( )
ثانيا : تغيير الحال
عن أبى ذر -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) ( ).
ثالثا : ترك المخاصمة والسكوت
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي –رحمه الله تعالى " ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك وخصوصا في الأقوال السيئة لا تضرك بل تضرهم إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها , وسوغت لها أن تملك مشاعرك , فعند ذلك تضرك كما ضرتهم , فإن أنت لم تصنع لها بالا , لم تضرك شيئا " .
يخاطبني السفيه بكل قبح : فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما : كعود زاده الإحراق طيبا
عن ابن عباس -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال ( علموا وبشروا ولا تعسروا وإذا غضب أحدكم فليسكت ) ( ). قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- " وهذا أيضا دواء عظيم للغضب ؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره , فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده , وما أحسن قول مورق العجلي -رحمه الله- ما امتلأتُ غضبا قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت " ا.هـ( )
قال سالم ابن ميمون الخواص :
إذا نطق السفيه فلا تجبه : فخير من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني : عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعا : قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوبا أبدا سفيها : خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ ( )
وقيل : ولقد أمر على السفيه يسبني : فمررت ثـمَّتَ قلتُ لا يعنيني
وقال الصفدي :
واستشعر الحلم في كل الأمور ولا : تسرع ببادرة يوما إلى رجل
وإن بليت بشخص لا خلاق له : فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
رابعا : الوضوء
عن عطية السعدي -رضي الله عنه - قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( إن الغضب من الشيطان ؛ وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )( ) .
وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا ( ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق وضوء )( ) .
خامسا : استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ
فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان سببا في ترك الغضب والانتقام للذات , وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب منها :
1/ الظفر بمحبة الله تعالى والفوز بما عنده قال تعالى ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) ومرتبة الإحسان هي أعلا مراتب الدين .
وقال تعالى ( فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37) .
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( ثلاثة مَن كنَّ فيه آواه الله في كنفه , وستر عليه برحمته وأدخله في محبته ) قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : ( مَن إذا أُعطي شكر , وإذا قَدر غفر , وإذا غَضب فتر ) ( ).
2/ ترك الغضب سبب لدخول الجنة
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه – قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة . قال : ( لا تغضب ولك الجنة ) ( ).